قد يستغرب البعض ويستهجن عندما تقول له: لن آخذ ابني أو ابنتي للمدرسة! سأعلمه في المنزل!
إلا أن هذه الفكرة ليست جديدة! ولم تكن إلا مشروعاً عملياً وإنتاجياً ضخماً اعتمد على التعليم النوعي والمنوَّع والمستمر في العهود السابقة، وأخرج لنا علماء وبارعين ومتقنين ومبدعين واختصاصيين وأهل دراية من جميع العلوم والفنون كالعلوم الطبيعية والاجتماعية والسياسية والتطبيقية والإنسانية بكل تفريعاتهم وأقسامهم، وعلى رأسهم أجلهم وأكرمهم وأقربهم للخالق وأقومهم للإنسان تربية وفهماً هي علوم الشريعة الإسلامية التي تعتبر رأس الهرم في فهم العديد من العلوم ومفتاحاً لها التي استُقيَت من كتاب الله عز وجل.
كانت تلك العهود تمارس العملية التعليمية في كل مكان دون قيود، وبجودة وإتقان عالٍ جداً، حيث إن البيوت والمساجد والمكتبات والبيوت الخاصة والدكاكين تعد من الحواضن التعليمية والمؤسسية التأصيلية، أسست الإنسان وزرعت فيه القيم والعلم والثقافة والأخلاق ووجهته للاختصاصية وأتقنت استثماره.
ما التعليم المنزلي؟
باختصار هو تدريس الأبناء في المنزل بدل المدرسة، بحيث يتولى الأب والأم مهمة اختيار منهج تعليمي معين لتأسيس الطفل في مراحله الأولى وتنتهي إلى المرحلة الإعدادية، ثم يكمل هذه المرحلة التالية في المدارس العامة، أو يدرسها في المنزل أيضاً، ثم يكمل الثانوية في المدارس أو إلى الجامعة، وهكذا بحسب الخطة التعليمية والميول والتأهيل والأهداف الخاصة التي وُجّه لها الطفل منذ البداية من قِبَل أسرته.
لكن مع ذلك، ليس له نهاية معينة، فهو على حسب الأسرة وحسب النظام المتبع في الدولة.
وقد سبقتنا الدول المتقدمة الحديثة رغم أننا كمسلمين سَبقْنا العالم في ذلك، ومنها كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية والتي يعد التعليم المنزلي المرن فيها معتمداً وقانونياً ومنتشراً في كل ولاياتها، ويصل عدد الطلاب الأطفال أكثر من 3.7 ملايين طفل يتعلم في منزله في أمريكا فقط.
ومنها كذلك الدول الأوروبية والمملكة المتحدة كأيرلندا وإسكتلندا وبريطانيا وفي الدول الخليجية الإمارات العربية المتحدة التي اعتمدت مساراً تعليمياً منزلياً مرناً مميزاً يعادل شهاداته شهادات الدراسة الحكومية.
عندما نتحدث عن التعليم المرن للطفل.. فلماذا هو موجّهٌ له؟
الطفل مخلوق إنساني عجيب متفاوت في قدراته واحتياجاته؛ لذلك مرونة التعلم تعتمد على ذلك الاحتياج التعليمي سواء التجريبي العلمي أو أي أسلوب آخر كأساليب التعليم الحسيّة مثل: بصري، سمعي، حركي، قرائي، أو ما يُعرف بالذكاء المتعدد كنظرية مثل: لغوي، منطقي رياضي، جسدي حركي، صوتي موسيقي، بصري مكاني، اجتماعي، ذاتي، طبيعي.
وطبعاً المنزل يعتبر بيئة مستقرة هادئة لا يوجد فيها تشتيت ولا ضوضاء كما في المدارس العامة، وهذا يحسّن عنده التركيز وسرعة الفهم في التلقي.
ومن خلال التواتر والتجارب بالإضافة للدراسات، فإن العوامل النفسية والسلوكية المستقرة والطبيعية في الطفل بمنزله تساعد في تعزيز الثقة بنفسه؛ حيث لا يوجد أي تعرض من ضغوط اجتماعية معينة وتنمر من قبل أقرانه الطلاب أو حتى من بعض المعلمين خصوصاً في هذه الفترة الحرجة لمرحلته العمرية كطفل.
كما أنه يوثق ويزيد من علاقة الوالدين في الطفل لمشاركته في التلقي والتعلُّم، ويقوّي العواطف والمحبة والترابط الروحي والنفسي بينهم، حيث يقضي وقتاً أكثر من المعتاد معهم، وهذا له الأثر في منطِّقِه وأسلوبه وسلوكه وينمي عنده مهارات التواصل بشكل أكثر وأوسع.
كما أن التعليم المنزلي يحافظ على بيئة صحية سليمة خالية من الأمراض والفيروسات المعدية والمنتشرة في المدارس بين الأطفال؛ لأن غالب الأمراض الموسمية وغير الموسمية يتناقلها الأطفال فيما بينهم، ويصبح الطفل مريضاً بين وقت وآخر طوال السنة، بعكس غير المختلط كثيراً، وأيضاً لن يكون هناك قلق من إطعامه، لأنه من السهل التحكم في غذائه ووجباته الصحية التي تناسبه في المنزل.
ثم إذا قلنا: ما الذي يعود على ذلك للأسرة؟
الحقيقة أن مرونة التعلم ستكون مناسبة حسب ظروف الأسرة، خصوصاً إذا كانت كثيرة التنقل والسفر، أو تقطن في مكان بعيد ولا يناسبها إلحاق طفلها في هذا المكان، أو بيئة المدارس غير مناسبة لهم، وهذه معضلة يعاني منها الكثير من الأسر؛ مما يتسبب في تعثر الطفل وتأخره الدراسي.
لذلك، هذه الفكرة لا يوجد بها ارتباط بجدول مدرسي معيّن، بل سيكون التعليم وأنشطته وفعاليته حرة وملائمة لظروف الأسرة وإمكانياتهم المعنوية والظّرفيّة والوقتية.
وهل له آثار إيجابية على المجتمع خاصة؟
لا شك بأن له فوائد مجتمعية التي ستدل على ارتقائه وتقدمه الفكري والاجتماعي، ومنها:
1- انفتاح المجتمع على نماذج تعليمية متنوعة وغير تقليدية؛ مما يعطيه شمولية أكثر وخروج مبتكرين بسبب وجود تجارب تعليمية جديدة كالتعلم القائم على المهارات والمشاريع مما ينمي ويثري التجربة التربوية العامة.
2- تخفيف الضغط على المدارس الحكومية خصوصاً أعداد الطلبة؛ ما يساعد في تحسين جودة التعليم، كذلك الموارد سواء بشرية أو اقتصادية، كالمعلمين والمباني والأدوات أو المعدات.
3- تعزيز القيم التي تتبناها الأسرة والمجتمع كالقيم الأخلاقية والدينية والثقافية وتقوية الروابط الداخلية بين الأسرة وتنمية الوعي المجتمعي.
4- تخريج أفراد مبادرين ومستقلين في المجتمع فالتعليم المنزلي يقوي التفكير النقدي ويشجع على الاستقلالية وينمي الشخصية وتظهر علامات ريادة الأعمال فتجد كثيراً من خريجي التعليم المنزلي يدخلون مجالات العمل الحر مبكراً.
5- حماية بعض الأطفال من بعض البيئات المدرسية غير المناسبة سواء غير الآمنة أو التي تسبب ضغوطاً نفسية، خصوصاً ظاهرة التنمر التي أشرنا إليها سالفاً، أو الانحراف السلوكي بشتى أنواعه التي تعاني منه الكثير من الأسر في المجتمعات.
6- بعض الأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم أو كاحتياجات خاصة لا تلبي لهم بيئة تعليمية مناسبة إلا المنزل.
7- إيجاد مجتمع لديه ثقافة عالية من التعليم الذاتي وهو التعليم المستمر مدى الحياة وهي صفة المجتمع المتقدم.
أما منافعه الإستراتيجية التي تعود بالفوائد الكبيرة للدولة والمنظومة التعليمية، فمن أبرزها:
1- تقليل العبء على البنية التحتية التعليمية من توفير للمقاعد الدراسية مما يخفف الضغط على المدارس، وترشيد الإنفاق العام من بناء مدارس جديدة أو توظيف المزيد من المعلمين.
2- نمط تعليمي رسمي منوع؛ ما سيجعل المنظومة التعليمية ذات نظام شامل ومرن يستوعب جميع فئات وظروف الطلاب (كالطلاب تحت الظروف الأسرية الخاصة أو ممن تسببت لهم الحوادث إصابات أو إعاقات مؤقتة.. إلخ).
بالإضافة إلى حسن سمعة التعليم للدولة؛ لأن الدول التي تدعم البدائل التعليمية المرنة هي أكثر تقدماً وحداثة، وهذا ينعكس على تصنيفها التعليمي عالمياً.
3- تشجيع روح الشراكة بين الدولة والمجتمع حيث تتمكن الأسرة من دورها ويزداد وعيها بدور التعليم في بناء الوطن، حيث سيكون للمواطن دور أكبر في ذلك.
4- ارتفاع جودة التعليم وتحسينها بسبب المنافسة بين المدارس الحكومية والخاصة حتى لا يتم خسارة الطلاب، ونشر الابتكار لأن التجارب المنزلية المتميزة تؤثر إيجابياً على تطوير المناهج والسياسات الرسمية.
5- تعزيز رأس المال البشري للدولة؛ لأن الذين تلقوا تعليماً منزلياً غالباً يتمتعون بقدرات تحليلية ومهارية عالية، وهذا له دور كبير في تنمية الكوادر الوطنية، كما أن الدول التي تدعم أنماط التعليم الذاتي دول قوية؛ لأنها تعد جيلاً مؤهلاً لسوق العمل الجديد الذي يعتمد على المهارات العالية لا الشهادات فقط.
6- جاهزية التعليم في الطوارئ فوجود بنية رسمية للتعليم المرن المنزلي يجعل الدولة تستمر في التعليم أثناء الكوارث والأزمات (جائحة كورونا مثالاً).
7– عندما تنظم الدولة التعليم المنزلي، فلن يتحول إلى تعليم خارج عن السياق القيمي أو الديني الذي يمثلها.
8– تعتمد الشهادات من قبلها ويتم منح شهادات التعليم المنزلي لكل مرحلة ضمن منظومة وطنية تعليمية واحدة.
وفي النهاية نحن في وقت تقفز فيه تحولات التعليم عالميًا، والتعليم المنزلي هو أحد البدائل الواعدة التي تستحق التأمل لا التجاهل، والدراسة لا التسطيح.
هذا النمط من التعليم ليس خروجًا عن النظام، بل خطوة مدروسة نحو نظام أكثر مرونة، وعدالة، واستيعابًا للفروقات الفردية بين الطلاب.
ومن تجربتي التربوية كمدرب دولي وخبير سابق في المؤسسات المدنية والعسكرية والتربوية بكل مراحلها سواء للمواطنين أو الطلبة المبتعثين من الدول الشقيقة والصديقة، ومع أكثر من 4 عقود قضيتها في التدريب والتعليم، أؤمن أن جوهر التعلم لا يصنعه المكان، بل الواقع، ولا يتحقق بالمنهج فقط، بل بالمنهج والطريقة.
فالتعليم المنزلي، حين يُنظَّم ويُحتضن من قِبل الدولة، يتحول إلى أداة لبناء جيل متعلم ذاتيًا، مرتبطٍ بقيمه، وقادر على حمل مسؤوليته في مجتمع سريع التغير.
وهنا، أوجّه رسالتي بكل محبة وتقدير إلى صنّاع القرار التربوي في بلداننا الخليجية والعربية:
افتحوا باب الاعتراف الرسمي للتعليم المنزلي، نظموه، واحتضنوه، ولا تتركوا هذا المكان المهم فارغاً، فهو يثري المنظومة التعليمية ويجددها والمستقبل يحمل مفاجآت بسبب التحولات الكبيرة في مفاهيم التعليم.
والذي يصنع الإنسان هو التعلم الذي بداخله وليس المدرسة التقليدية وحدها.
_________________
1- تقارير وزارة التربية والتعليم في دولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة.
2- موقع «u.ae» التابع لحكومة الإمارات.
3- بيانات صادرة عن وزارة التعليم الأمريكية حول التعليم المنزلي.
4- تقارير منظمة اليونسكو (UNESCO) المتعلقة بأنماط التعليم البديلة.
5- أبحاث المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية ECSS.
6- تقارير منشورة في independentarabia.com حول التعليم المنزلي في العالم العربي.
7- ملاحظات تحليلية وتجميعية من مصادر تربوية وتقارير إحصائية دولية.