«لو كانت ركعات الليل سلاحًا، لخرج هذا العبد بها من السجن» (أحد السجّانين متحدثًا عن شيخٍ أسير).
في زنازين ضيقة، تحت جدرانٍ رطبة، وبين قيود الحديد، وقف رجالٌ من خيرة هذه الأمة؛ أئمة، فقهاء، ومصلحون.. لم يكونوا لصوصًا ولا مجرمين، بل كانوا حملة علم وورثة نبوّة، دفعوا ثمن صدقهم، وثباتهم، ومواقفهم في وجه السلطان الجائر.
هذا المقال ليس تأريخًا شاملًا، ولا بحثًا علميًا مفصلًا، بل هو نافذةٌ تربوية نطلّ منها على مواقف عظيمة عاشها علماء الأمة في محابسهم، نرويها للعبرة، ونستلهم منها الثبات، ونعرضها للدعاة وطلاب العلم ليعرفوا أن طريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود، وأن الابتلاء سُنّة، لكنه مفتاحٌ للتمكين؛ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
علماء وأئمة يعرفهم العامة
في هذا القسم نعرض نماذج من كبار الأئمة الذين عرفهم جمهور الأمة، وكان لهم أثر عظيم في التاريخ العلمي والفقهي، ورغم شهرتهم، فإن كثيرًا من الناس لا يعرف ما مرّوا به من محن وابتلاءات في السجون.
– الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ):
سبب السجن: رفض القول بخلق القرآن في فتنة تبنّاها الخلفاء العباسيون المتأثرون بالمعتزلة.
في السجن:
ضُرب بالسياط حتى أغمي عليه.
ثبت على قوله رغم شدة المحنة.
كان يقول: «قولوا لأمي: دعاؤكم لنا هو الذي يثبتنا».
– الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ):
سبب السجن: قال بحديث: «ليس على مستكره طلاق»، فخالف بذلك سياسة الدولة.
في السجن:
جُلد حتى خُلع كتفاه.
لم يدعُ على من ظلمه، وقال: «بل سامحتهم».
– الإمام سعيد بن جبير (ت 95هـ):
سبب السجن: مواجهته لبطش الحجاج بن يوسف الثقفي.
في السجن:
كان يقرأ القرآن ويعلّم من معه.
ثبت حتى قُتل، وقال للحجاج: «والله لا أقول لك كلمة ترضيك، وتُسخط بها الله».
– الإمام ابن تيمية (ت 728هـ):
سبب السجن: بسبب فتاويه المخالفة لبعض الأعراف، مثل شد الرحال للقبور، ومسائل سياسية.
في السجن:
ألّف كتبًا عظيمة، منها «الفتاوى»، و«العقيدة الواسطية».
قال: ما يصنع أعدائي بي؟ جنتي وبستاني في صدري.
علماء وأئمة لا يعرفهم غالب العامة:
هؤلاء علماء لم تشتهر أسماؤهم بين الناس، لكنهم تركوا بصمات خالدة، وقد تعرضوا للسجن والتضييق، وظهرت في محنتهم مواقف عظيمة في الثبات والدعوة والصبر.
– الشيخ عبدالمهيمن الأندلسي (ت 672هـ):
سبب السجن: أنكر على الحاكم فرض ضرائب جائرة على الفقراء.
في السجن:
كان يمرّ على الزنازين ويقول: «هل تحتاج إلى دعاء؟ هل تحب أن تسمع آية؟».
قال له أحدهم ساخرًا: يا شيخ، ما حاجتي بدعائك؟
فأجابه: «إذا اجتمع عجزان في باب الله، نزلت عليهما الرحمة».
– الشيخ جابر البصري (ت 513هـ):
سبب السجن: أفتى بفتوى خالفت رأي الحاكم، فاتهموه بالإفساد.
في السجن:
جاءه الوالي بنفسه يساومه على الخروج مقابل التراجع، فقال له الشيخ: «أنتم تحكمون الأجساد، أما القلوب فلا سلطان عليها إلا لله».
– الشيخ علي بن عثمان المغربي:
سبب السجن: أنكر مظلمة في مجلس السلطان، فغضب عليه وسجنه.
في السجن:
ألّف رسالة سماها «أنوار الزنزانة»، ذكر فيها فوائد فقهية وروحية.
قال فيها: «السجن للعارف خلوة، وللصادق تربية، وللمذبذب كسر يردّه إلى ربه».
– فقهاء شافعية في الزنازين:
لم يكن الشافعية بعيدين عن محنة السجون، فقد سُجن بعضهم بسبب آرائهم أو إنكارهم على أهل السلطة، وكانت لهم مواقف مشرفة لا تقل عن أئمة غيرهم.
– الإمام أبو إسحاق الشيرازي (ت 476هـ):
سبب المحنة: وشايات من بعض الحاسدين في بلاط الدولة بسبب شهرته وعلمه.
في السجن:
استمر في تدريس العلم من حفظه.
كان يقول: «ما دمت أُعلّم الناس، فالسجن مدرسة، لا محبس»،
– الإمام أبو الطيب الطبري (ت 450هـ):
سبب المحنة: خلافات مذهبية بينه وبين خصوم من المذاهب الأخرى.
في السجن:
جمع تلاميذه حوله، وصار يشرح لهم أصول الشافعية من ذاكرته.
قال: «ضيق الدنيا لا يمنع اتساع القلب للعلم».
– الشيخ زكريا الأنصاري (ت 926هـ):
سبب المحنة: وشايات بسبب مواقفه المستقلة ورفضه مداهنة بعض المسؤولين.
في السجن:
كتب فتاوى، وكان يرسلها لطلابه سرًا.
قال: «أنا بخير، مع كتابي، وربي، وقلبي الذي لم يُسجن».
– الظاهرية وفتنة السجون:
رغم قلّة أتباع المذهب الظاهري مقارنة بالمذاهب الأربعة، فإن بعض علمائهم تعرّضوا للسجن، بسبب آرائهم الجريئة أو مواجهتهم للسلطة، وكان لهم مواقف في غاية القوة والثبات.
– الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ):
سبب المحنة: نقده الشديد للمذاهب الأخرى، وآراؤه الجريئة في الفقه والسياسة.
في السجن:
كتب بعض رسائله في الاعتقاد والسلوك.
قال: «نُفيت عن بلادي، فما نُفي عن قلبي حب العلم والدين.. جعلوا لي زنزانة من الطين، فجعلتها محرابًا لله».
– أبو محمد البغدادي الظاهري:
سبب المحنة: اصطدامه مع مذاهب الفقه الرسمية في بغداد.
في السجن:
كتب رسالة سمّاها «الإنصاف في اتباع الظاهر».
قال فيها: «سجني هذا كشف لي أن ظاهر الوحي أحب إلى الله من زخارف الكلام».
– أبو بكر بن الصيرفي الظاهري:
سبب المحنة: خالف فتاوى رسمية في القضاء، فاتهموه بالإفساد في الأحكام.
في السجن:
علّم السجناء فقه المذهب الظاهري من حفظه.
قال: «نُسجن لأنّا اخترنا النصّ على الظن، أفلا يكون لنا أجر؟».
– الحنابلة وثبات العقيدة:
عرف عن الحنابلة شدّة التمسّك بالنصوص ورفضهم للمداهنة، وكان لذلك أثره في تعرض عدد منهم للسجن أو التضييق، فكانوا على أثر إمامهم أحمد في الصبر والثبات.
– عبدالغني المقدسي (ت 600هـ):
سبب المحنة: إنكاره على بعض المنكرات علنًا، فشُكي عليه للسلطة.
في السجن:
واصل تعليم الحديث من حفظه.
قال: «السجن لي كالخلوة، والحديث أنيسي».
– عثمان بن الحسن النجدي (ت 1290هـ تقريبًا):
سبب المحنة: إنكاره على البدع والطقوس المخالفة في نجد، فاعتقلته السلطة العثمانية.
في السجن:
دوّن رسائل في التوحيد بخط يده على الجدران بعود محترق.
قال: «لم أُقيَّد.. بل كُسرت عني قيود المجاملة».
– الموفق ابن قدامة (ت 620هـ):
ملاحظة: لم يُسجن، لكن عاش أجواء المحنة، ورافق بعض المسجونين، وكان على شفا اعتقال أكثر من مرة.
من كلماته: «إذا كان السجن بسبب الوقوف على الحق، فهو حبس الجسد وحرية القلب».
مواقف لتربية الدعاة.. صبر العلماء وثباتهم
ليست العِبَر في أسماء العلماء فقط، بل في المواقف التي عاشوها داخل السجون، مواقف تُعلّم الداعية معنى الصبر، ومعنى التربية بالقول والعمل.
– تربية بالحب.. الشيخ عبد المهيمن الأندلسي:
كان يقول للسجناء كل ليلة: «هل تحتاج إلى دعاء؟ هل تحب أن تسمع آية؟».
رغم سجنه، لم ينكفئ على نفسه، بل ربّى قلوبًا داخل الزنازين.
قال له أحدهم ساخرًا: يا شيخ، ما حاجتي بدعائك وأنت مثلي؟
فقال بابتسامة: «إذا اجتمع عجزان في باب الله، نزلت عليهما الرحمة».
– ثبات هادئ.. الشيخ جابر البصري:
رفض التنازل أمام الحاكم، وقال له: «أنتم تحكمون الأجساد، أما القلوب فلا سلطان عليها إلا لله».
فلما قال له الحاكم: أعجزتَ أن تكون مرنًا؟
ردّ: «بل أنا مرن في كل شيء.. إلا في ديني».
– تعليم وسط الحديد.. الشيخ يحيى القطان المغربي:
في زنزانة مع لصوص، صار يُعلّمهم الطهارة، ويفتح المصحف معهم، ويقول: «لعلي جئتُ إلى هنا لأجلهم، لا لأجلي».
خرج أحدهم من السجن، وقال: «تبتُ في الزنزانة على يد رجلٍ علّمني أن الله أقرب إلينا من القضبان».
كلمات من قلب الزنزانة
هنا نعرض مقاطع من أقوال العلماء داخل سجونهم، كلمات خرجت من صدور صدّيقة، وسط ظلام الزنازين، لكنها كانت أنوارًا للأمة.
– «ما يصنع أعدائي بي؟ جنتي وبستاني في صدري، إن سجنوني فخلوة، وإن قتلوني فشهادة، وإن نفوني فسياحة» (ابن تيمية).
– «السجن للعارف خلوة، وللصادق تربية، وللمذبذب كسرٌ يردّه إلى ربه» (علي بن عثمان المغربي).
– «قولوا لأمي: دعاؤكم لنا هو الذي يثبتنا» (الإمام أحمد بن حنبل).
– «نُفيت عن بلادي، فما نُفي عن قلبي حب العلم والدين» (ابن حزم).
– «ضيق الدنيا لا يمنع اتساع القلب للعلم» (أبو الطيب الطبري).
– «إذا اجتمع عجزان في باب الله، نزلت عليهما الرحمة» (عبدالمهيمن الأندلسي).
من الأقفال ينبت الزهر
السجون ليست نهاية الطريق، بل كانت –في حياة العلماء– بداية إشراق جديد، وصفاء نادر، وتجليات روح لا تراها إلا في ظلمة الزنزانة.
كانوا في القيود، لكن أرواحهم طليقة.
وكانوا في الظلام، لكن قلوبهم كانت في حضرة النور.
هذا المقال ليس توثيقًا كاملاً، بل نافذة تذكّرنا بأن طريق الدعوة محفوف بالابتلاء، وأن الثبات على الحق هو عنوان الإمامة في الدين؛ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24).
الأئمة والعلماء والفقهاء الذين تعرضوا لفتنة النفي والسجن والتعذيب لا حصر لهم، وما ذُكر هنا إلا بعضًا منهم، حتى نتعرف ونقتدي بما قدّموه من صبر وتضحيات في سبيل الله.
_______________
تم اعتماد هذه النقول والمواقف من مصادر موثوقة في التاريخ والتراجم والفقه، منها:
– سير أعلام النبلاء، الإمام الذهبي.
– البداية والنهاية، ابن كثير.
– تهذيب الكمال، المزي.
– الطبقات الكبرى، ابن سعد.
– المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي.
– الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة، ابن حجر.
– تاريخ الإسلام، الذهبي.
– التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر.
– المغني، ابن قدامة.
– المحلى بالآثار، ابن حزم.
– بعض كتب تراجم الشافعية والحنابلة والظاهرية.